التقاضي عن بُعد بين التطوّر التقني ومتطلّبات العدالة الجنائية
admin
ديسمبر 4, 2025
Uncategorized
التقاضي عن بُعد بين التطوّر التقني ومتطلّبات العدالة الجنائية
إنَّ التقدُّمَ التكنولوجيَّ في مجالات الحياة المختلفة، ولا سيّما في مرفق القضاء، يُعَدُّ إنجازًا حضاريًّا يسهم في تسهيل الإجراءات وتسريع الفصل في المنازعات. وقد جاء التقاضي عن بُعد ليكون أداةً فاعلة في تحقيق هذه الغاية، فخفَّف الأعباء، ووفّر الوقت والجهد، وفتح آفاقًا واسعة لتطوير العدالة، وهو أمرٌ محمود ومقبول في كثيرٍ من صور التقاضي المدني والتجاري والإداري.
غير أنّ العدالة الجنائية تظلُّ ذات خصوصية متفرّدة، تستدعي من القاضي الجنائي أن يباشر مهمته وهو على تماسٍّ مباشرٍ مع المتهم، يرى هيئته ويقف على حالته الجسدية والنفسية عن قرب، إذ قد تكشف المعاينة البصرية ما لا تنقله الشاشات ولا تنقله التقارير.
إنَّ حضور القاضي الجنائي لمواجهة المتهم وجهًا لوجه يُمكّنه من ملاحظة هُزاله نتيجة سوء التغذية، أو استشعار روائح ملابسه التي تحمل آثار الازدحام وسوء ظروف الاحتجاز، ورؤية البقع التي تُحدِثها ندرة النظافة، وسماع حفيف أقدامه وهو يجرّها ببطء نتيجة الإرهاق أو التكدّس أو قلّة الحركة، فضلًا عن صليل القيود ووقع المفاتيح وهي تُفكّ أمامه بيد الحرس قبل عرضه.
هذه المشاهد الحيّة، بكل تفاصيلها، تمنح القاضي رؤيةً شاملةً تُعينه على تقدير ما إذا كان استمرار حبس هذا الإنسان مُبرَّرًا أو أنّه يستوجب الإفراج عنه، أو قبول استئناف النيابة على قرار إطلاق سراحه. أمّا الاقتصار على الرؤية عبر الشاشة، فإنّه يُفقِد القاضي كثيرًا من المؤشرات الإنسانية التي لا يمكن التقاطها عن بُعد، مما قد يفضي – من حيث لا يُقصد – إلى قرارات قاسية تُتَّخذ بضغط زر، وكأنّ الأمر لعبةٌ افتراضية، لا تتجاوز أجواء المكاتب المكيّفة والمعطّرة، بعيدةً عن معاناة الواقع.
ولعلّ التشبيه الأقرب لفهم أثر غياب المواجهة المباشرة، أن نتخيّل مَن يُطلَب منه أن يُزهِق روح إنسان بيديه، فيرى في عينيه رعب الاحتضار، ويسمع أنفاسه المتقطّعة، ويرى دماءه النازفة، فهنا ستقف النفس البشرية في وجه التنفيذ مهما كانت الإغراءات أو المبررات. بينما إذا تمّ الفعل بضغط زر من خلف شاشة، فإن المشهد ينفصل عن واقعه الإنساني، ويغدو القرار أخفّ وطأةً على النفس، رغم أنّ النتيجة واحدة.
ومن ثمَّ، فإنَّ العدالة الجنائية الحقّة تقتضي أن تبقى المواجهة المباشرة بين القاضي والمتهم عنصرًا أصيلًا في إجراءات المحاكمة، صونًا للحقوق، وضمانًا لتحقّق أركان المحاكمة العادلة المنصوص عليها في المواثيق الدولية، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي أقرّت حقّ المتهم في أن يُحاكَم حضورياً أمام قاضيه الطبيعي.
فالعدالة ليست مجرّد نصوص تُطبّق، بل هي إحساس ومسؤولية وضمير، ولا يُبنى الضمير القضائي إلا على معاينة الحقيقة بكل حواسّها، لا عبر صورة باردة على شاشة.
إيهاب نايل
EIHAB NAYEL
مستشار قانوني وشريك إداري